لمحةٌ عن الموطأ ومكانته في المذهب المالكي:
تُحدثنا إحدى الروايات عن الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ وكتابه الموطأ وعن بعض الحوافز التي شدَّت من أزره لإبراز هذا الأثر العظيم الذي يُعتبر باكورةَ التدوين ـ في العصر الإسلامي ـ الأثرُ الذي كتب اللهُ له القبولَ وأبقاهُ متداولاً مَرْوياً، يحملهُ من كلّ خلف عُدوله، إنه من الكنز الذي بشَّرتْ به رؤيا قارئ المدينة يحيى ابن أبي كثير ت129ه حين قال: أتيتُ المسجد فإذا ناحية من القبر انفرجت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس والناس يقولون يا رسول الله أعطنا يا رسول الله من لنا؟ فقال لهم: إني كنزت تحت المنبر كنزاً، وقد أمرت مالكاً يقسمه بينكم فاذهبوا إليه [1] وعن هذا الكنز ومظاهر استبحار صاحبه في العلم يقول ـ حسب الرواية ـ مالك: " دخلت على أبي جعفر ت158ه [2] بالغداة حين وقعت الشمس بالأرض، وقد نزل عن سريره إلى بساطه، فقال لي: حقيق أنت بكل خير، وحقيق بكل إكرام، فلم يزل
يسألني حتى أتاه المؤذن بالظهر، فقال لي: أنت أعلم الناس، فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتم ذلك، فما أحد أعلم منك اليوم بعد أمير المؤمنين.
يا أبا عبد الله ضع للناس كتباً، وجنب فيها شدائد عبدالله بن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأمة والصحابة [4] ..." الخ
وفي رواية: ووطئه للناس توطئة. قال مالك: فو الله لقد علمني التصنيف يومئذ ومعنى الموطأ : المسهل الميسر[5] ومعنى الموطإ الممهد المنقح ولم يسبق مالك إلى هذه التسمية، قيل لأبي صالح لم سمى مالك الموطأ قال شيء صنعه ووطأه للناس حتى قيل موطأ مالك وعن بعض المشايخ قال مالك عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ
فمنْ ذلك اللقاء ـ كما تقول الرواية ـ مع أبي جعفر المنصور شرع الإمام مالك في تصنيف (الموطأ) بعد أن قويت عزيمته، فانتخبَ من مروياته ما لَهُ صلةٌ بالفقه من أحاديث الأحكام المعروفة عند علماء أهل المدينة، مما أجمعَ عليه سلفهم واستمرَّ على العمل به خَلفُهم ، وقدْ يسَر الله له ما انتهَجَهُ لأسبابٍ منها : نشأته في المدينة المنورة وطلبهُ العلم بها على حداثة سنه، وأخذه عن الجيل الثاني من رجال المدرسة النبوية ـ تلاميذِ الصحابة ـ ولتسميّة كتابه با"لموطأ" وجهٌ آخرُ يُناسِبُ مضمونَه، ذكره السيوطي ت911هفقال: «قال مالك: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته بالموطأ»
وثمةَ سببٌ آخرُ لتأليفه أخرجه ابن عبد البر ت463ه عن المفضل بن محمد بن حرب المدني ت308ه قال: أول من عمل كتابا بالمدينة على معنى الموطأ في ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجَشونت164ه وعمل ذلك كلاما بغير حديث فأُتيَ به مالكٌ فنظر فيه فقال: ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا الذي عملت ابتدأت بالآثار ثم شددت بالكلام قال: ثم إن مالكا عزم على تصنيف الموطأ فصنفه فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شَرِكَكَ فيه الناس وعملوا أمثاله فقال: إيتوني بما عملوا فأُتي بذلك فنظر فيه ثم نبذه، وقال: لتعلمنَّ أنه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله تعالى
قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمع بشيء منها بعد ذلك يُذكرُ [8]
وكادَ يقتصر في موطأه على شيوخ أهل المدينة ـ لولا ستةً روى عنهم، وهم: أبو الزبير المكي ت128ه ، وإبراهيم بن أبي عبلة الشامي ت152ه ، وعبدالكريم ابن مالك الجزري ت152ه وعطاء بن عبدالله الخراساني ت135ه وحميد الطويل البصري ت143ه وأيوب السَّختِياني البصري ت131ه ـ[9]
والذي يفهم من الروايات المتعددة في هذا الشأن أن مالكا استغرقَ في توطئة الموطأ وتيسيره للناس وقتا ليس بالقصير، وقتا يزيدُ على أربعين سنة نتيجة لتثبته وتحريه في الأحاديث المروية والآثار وعرضها على الكتاب والسنة والإجماع فقد كان معروفاً بالتثبت والتؤدة في أموره كلها
قال ابن عبد الواحد ت200ه ـ صاحب الأوزاعي (وهو أحدُ رواة الموطأ[10]) : عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما، فقال: كتابٌ ألفته في أربعين سنة، قرأتموه علي في أربعين يوما، ما أقل ما تفقهون فيه [11] وعلى مُقتضى هذه الرواية تكون البداية الفعلية لتأليف الموطأ نحو سنة: 138هـ ويؤيد ذلك كلام الحافظ ابن عساكرت499ه [12]
وكتابُ الموطأ لم يكن كتابَ حديث، القصدُ منه الروايةُ فقط، وإنما هو كتابُ استدلالٍ بالحديث على الحكم الفقهي فهو يجمع بين الحديث والفقه، يأتي بالآية من الكتاب العزيز، ثم يذكر الأحاديث الواردة في المسألة الواحدة، فإن لم يجد حديثا صحيحا استدلّ بعمل أهل المدينة، فإن لم يجد تخير من أقوال الصحابة والتابعين، ما يراهُ.
عنايةُ الإمام مالك بالموطأ وإخلاصُه فيه:
عُرف عن الإمام مالك رضي الله عنه من الضبط والتحري في روايته مالم يُعرف مثلُه عن غيره ونُقل عنه في ذلك قوله : (من جعل التمييزَ رأس ماله عدِمَ الخسران وكان على زيادة) [13] وقال تلميذه : عبد الله بن وهب ت197ه : كان علم الناس يزيد وكان علمُ مالك يَنْقُصُ ـ كلَّ سنةٍ ـ من حديثه [14].
وقال إِلْكيَاالهَرَّاسيت504ه: إن موطّأ مالك كان اشتمل على تسعة آلاف حديث، ثم لم يزل ينتقي حتى رجع إلى سبعمائة [15] بل قال القاضي ابن المنتاب ـ ولي قضاء المدينة للمقتدر ت320ه ـ :ذُكر أن مالكًا، رضي الله عنه، روى مائة ألف حديث جمع منها في موطّأه عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويختبرها بالآثار والأخبار ويحذف حتى عادت إلى خمسمائة[16]
أما في مجال إخلاصه فقد قال ابن عبد البر ت463ه: بلغني عن مُطَرِّف بن عبد الله الأصم ت220ه: ـ صاحب مالك ـ قال: قال لي مالك: ما يقول الناس في موطأي؟ فقلت له: الناس رجلان: مُحبٍّ مُطْرٍ، وحاسدٍ مُفْتر، قال لي مالك: إن مُدَّ بك عمر، فسترى ما يُراد به الله.[17]
وشاعت عبارة تلميذه الإمام الشافعي ت150ه في الموطأ ، وتناقلها العلماء وهي : "ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصحَّ من كتاب مالك" وقوله: "إذا جاء الأثر فمالك النجم" [18] ولأجل إتقانه وانتقاده للرواة وقوة ضبطه حرِصَ العلماءُ والمحدثون على حديثه قال الإمام الشافعي : "إذا جاء الحديثُ عن مالك فشُدَّ به يدكَ" [19] وقال أبو يوسف القاضي ت 182هـ : ما رأيت أعلم من ثلاثة: مالك وابن أبي ليلى وأبي حنيفة.
مكانة الموطأ بين كتب الحديث:
لا يخفى على ذي تحصيل علمي ما للموطأ من المكانة، فشهرته، وصحته، وريادته في التدوين باعتباره أقدمَ مؤلفٍ إسلامي يصلنا كاملا بمعظم رواياته ونسخه ، إذْ لا يوجد اليومَ كتابٌ من مؤلفات إمام من أتباع التابعين غير الموطأ، فهو أول مؤلف في تاريخ الإسلام تناقلته الأجيال ـ منذ تأليفه إلى الآن ـ قال عنه الإمام محمد أبو زهرة ت1394ه [21]: "أول مؤَلَّف ثابت النسبة من غير شك، ذاع وانتشر في الإسلام ، وتناقلته الأجيال جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا .. ويعد الأول في التأليف في الفقه والحديث معا.. إلى قوله: أما التدوين والتأليف الحقُّ فقد ابتدأ بالموطأ".
ومهما علت مكانته فهو جديرٌ بما قيل فيه منْ مدْحٍ لامتيازه بالسند الثُّنائي بين مؤلفه والنبي صلى الله عليه وسلم ولأحاديثه وآثاره المنتخبة من حيثُ شهرتها في مجتمع المدينة واطرادُ العمل بها بين الصحابة وتابعيهم ، ولذلك ـ وغيره ـ تنافس المحدثون ـ قديما وحديثاـ في روايته وسماعه وإسماعه وجعلوهُ يُنبوع استمدادهم وقطبَ رحا اعتمادهم، قال ابن تيميةت728ه عن البخاري ت256ه: "أولُ ما يستفتح الباب بحديث مالك وإن كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالما أعلم من مالك في وقته"[22]
وهكذا حالُ باقي أصحاب الصحاح الستة مع الموطأ قال الشيخ صديق حسن خان القِنَّوُجيت1307ه: وَأعلمُ ـ أَيْضا ـ أَن الْكتب المصنفة فِي السّنَن كصحيح مُسلمت261ه وَسنَن أبي دَاوُد ت 274ه والنَّسَائِيّ ت303ه وَمَا يتَعَلَّق بالفقه من صَحِيح البُخَارِيّ وجامع التِّرْمِذِيّ ت274ه مستخرجات على الْمُوَطَّأ تحوم حومه وتروم رومه ومطمح نظرهم فِيهَا وصلُ مَا أرْسَلهُ وَرفعُ مَا أوقفهُ واستدراك مَا فَاتَهُ وَذكر المتابعات والشواهد لما أسْندهُ وأحاطه جَوَانِب الْكَلَام [23]
وكان الإمام المبجل أحمد بن حنبل ت241ه شديدَ العناية بالموطأ حريصا على روايته فقد سمعه من تسعةَ عشرَ راوياً عن مالك قال: "كنت سمعتُ الموطأ من بضعة عشر نفسا من حفاظ أصحاب مالك ، فأعدته على الشافعي، لأني وجدته أقومهم به" [24] وقال حين سئل عن موطأ مالك : "ما أحسنه لمن تديَّن به" [25]
وقال الدهلوي في دوران المحدثين حوله إنّ :"مُسند الدارميت255ه إنما صنف لإسناد أحاديث الموطأ وفيه الكفاية لمن اكتفى" [26]
ومعلوم أن المحدثَ عبدالله بن عبد الرحمن الدارمي ، كان ـ في عصره ـ أحدَ حفاظ الدنيا الأربعة وقد وُلدَ:181ه ـ بسنتين بعدَ وفاة الإمام مالك ـ وروى عن الجيل الثالث بعدَ الصحابة وهم: أتباع التابعينَ [28]
وفي استمداد أصحاب المذاهب الثلاثة من الموطأ يقول الشيخ ولي الله الدهلوي ت1176ه: "الموطأ عُدة مذهب مالك وأساسه وعمدة مذهب الشافعي وأحمد ورأسه ومصباح مذهب أبي حنيفة ت150ه وصاحبيه ونبراسه وهذه المذاهب بالنسبة إلى الموطأ كالشروح للمتون وهو منها بمنزلة الدوحة من الغصون وإن الناس وإن كانوا من فتاوى مالك في رد وتسليم وتنكيت وتقويم ما صفا لهم المشرب ولا تأتَّى لهم المذهب إلا بما سعى في ترتيبه واجتهد في تهذيبه قال الشافعي: "ليس أحد أمَنَّ عليَ في دين الله من مالك" [29] ويُفسِّرُ كلام الدهلوي ما نقل البويطي ت231ه عن الشافعي قال : سمعت الشافعي يقول : أصول الأحكام نَيِّفٌ وخمسُمائة حديث كلها عن مالك إلا ثلاثين حديثا [30]
ويفسر ما أشارَ إليه الدهلوي اجتماعُ أبي حنيفة بمالك في مواسم الحج والزيارة وروايته عنه [31] كما روى صاحباهُ عنه خاصةً محمد بن الحسن الشيباني ت 189ه ناشر المذهب الحنفي ومدونُه في كُتبه ، وروايته للموطأ مشهورة متداولةٌ، مرجوع إليها في كتب الحنفية وأبو يوسف القاضي ت 182ه الذي روى عنه وسمع منه في مجلس الرشيد بالمدينة المنورة وأخذَ بقوله في الصاع .
وقد ظلّ الموطّأ مُحتفظاً بمكانته ـ بعدَ ظهور الصحيحين ـ يصفه الحفاظُ بما وصفه به الإمام الشافعي من الدرجة القُصوى في الصحة إلى عهد أبي علي النيسابوري ت ـ مُنتصف القرن الرابع الهجري ـ: 349ه الذي قال بتقديم البخاري ونسبَ ذلك إلى شيخه الإمام النسائيت303ه [33] ثم جاء بعده ابن حزم الظاهري ت 456ه فجعله تالياً لجُملةٍ من كتب الصحاح والمسانيد ، وتعقبه الحافظ الذهبيت673ه في تصنيفه للموطأ فقال: "ما أنصف ابن حزم.... إن (للموطأ) لوقعاً في النفوس، ومهابةً في القلوب لا يوازنُها شيء"[34].
وقد ذهب ابن الصلاح ت 643هـ إلى رأي النيسابوري في تقديم الصحيحين [35] وتعقَّبه شارحه الحافظ : مُغْلَطايَ بن قِلِيج ت 762هـ [36] ووافقه في تقديم
الصحيحين الحافظُ: ابن حجر العسقلاني ت852هـ فنتجَ عن ذلك ما يُمكنُ حصرهُ في ثلاث اتجاهات هي:
ـ الاتجاه الأول: تقديمُ الموطأ على كتُب الحديث جميعها:
يذهبُ أصحاب هذا الاتجاه مذهبَ الإمام الشافعي في قوله : "ما على وجه الأرض ـ بعد كتاب الله ـ أصحَّ من كتاب مالك" [37] والإمام عبد الرحمن بن مهدي ت 198هـ القائل : «ما كتاب بعد كتاب الله أنفعَ للناس من الموطأ» والإمام عبدالله بن وهب ت197هـ القائل : «من كتب موطأ مالك فلا عليه أن يكتب من الحلال والحرام شيئاً»
والإمام الترمذي ت279ه القائل في جامعه : قال يحيى ت198ه : ما في القوم أحد أصح حديثا من مالك بن أنس [38] وابن شعبان محمد بن القاسم المالكي ت355هــ تلميذ الإمام النسائي ـ [39]والحافظين :حافظِ المغرب : ابن عبد البر القائل : «الموطّأ لا مثيل له ولا كتاب فوقه بعد كتاب الله تعالى عز وجل»[40] وحافظِ المشرق : أحمد بن علي : الخطيب البغدادي ت 463هـ في قوله : «وأما موطأ مالك بن أنس فهو المقدم في هذا النوع ويجب أن يبتدأ بذكره على كل كتاب لغيره» [41] وأبو بكر ابن العربي المالكي ت453هـ في قوله: «كتاب الجُعْفي (أي: البخاري) هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطّأ هو الأول واللباب وعليهما بناء الجميع كالقُشَيْري والتِّرْمِذِي ت279ه فما دونهما».[42]
والحافظ مُغَلْطَايَ الحنفي ت762هـ وابن لِيُون التُّجِيبي ت750هـ والسيوطي والشيخ صالح الفُلَّاني ت 1218هـ والشيخ ولي الله الدهلوي القائل: "لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله، كذلك تيقنت أن طريق الاجتهاد وتحصيل الفقه بمعنى معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية مسدود اليوم على من رام التحقيق إلا من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقق الموطأ نصب عينيه، ويجتهد في وصل مراسيله ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين، بتتبع كتب أئمة المحدثين ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين في المذاهب من تحديد مفهوم الألفاظ وتطبيق الدلائل وتبيين الركن والشرط والآداب، واستخلاص القواعد الكلية الجامعة المانعة، ومعرفة علل الأحكام، وتعميمها وتخصيصها، وفقاً لعموم العلة وخصوصها، وأمثال ذلك" [43]و قال ـ أيضا ـ : "كتاب الموطأ أصح كتب الفقه وأشهرها وأقدمها وأجمعها، وقد اتفق السواد الأعظم من الملة المرحومة على العمل به، والاجتهاد في روايته دراسته، والاعتناء بشرح مشكلاته ومعضلاته ،والاهتمام لاستنباط معانيه و تشييد مبانيه، ومن تتبّع مذاهبهم ورزق الإنصاف من
نفسه علم لا محالة أن الموطأ عدة مذهب مالك وأساسه، وعمدة مذهب الشافعي وأحمد ورأسه، ومصباح مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ونبراسه،وهذه المذاهب بالنسبة للموطأ كالشروح للمتون، وهو منها بمنزلة الدوحة من الغصون "ـ إلى قوله ـ : وعُلم أيضاً أن الكتب المصنفة في السنن كصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، وما يتعلق بالفقه من صحيح البخاري وجامع الترمذي مستخرجات على الموطأ تحوم حومه وتروم رومه، مطمح نظرهم فيها وصل ما أرسله ورفع ما أوقفه، واستدراك ما فاته وذكر المتابعات والشواهد لما أسنده، وإحاطة جوانب الكلام بذكر ما روى خلافه، وبالجملة فلا يمكن تحقيق الحق في هذا ولا ذاك إلا بالإكباب على هذا الكتاب"
وقبل هؤلاء ابن الأثير ت606هـ في جامع الأصول والحافظ عبد العظيم المنذري ت 656ه في الترغيب والترهيب [46]حيثُ يذكرُه ثم يعطِفُ عليه الصحيحين أو أحدهما واستمرّ على هذا الاتجاه من كلّ قرن محدثون، منهم في القرن الرابع عشر: الشيخ المحدث صديق حسن خان القِنَّوُجي ت 1307هـ [47]والشيخ المحدث : محمد حبيب الله بن مَايَابَى الشنقيطي ت 1363هـ [48] والشيخ المحدث محمد الطاهر بن عاشور التونسي [49] ت 1393هـ والشيخ المحدث المسندُ : عبدالحق الهاشمي المكي ت 1396هـ القائل: « وأنا أقدمُ من كتب الحديث الموطأ والصحيحين وليس في الموطأ حديث إلا وهو موجود في الصحيحين ـ إلا أحاديثَ قليلة» [50]
ـ الاتجاه الثاني:
جعلُ الموطأ بعدَ الصحيحين:
ذهب متأخروا المحدثين إلى هذا المنحى يتقدمهم أبو عمرو ابن الصلاح وتابعه على رأيه غالبُ شارحي مقدمته في مصطلح الحديث ومُلخصيها حتى أصبح رأياً معتمدا عند الحافظ الذهبي في قوله : رُتبة الموطأ أن يذكرَ تِلْوَ الصحيحين [51]والحافظ العراقي[52] (ت806هـ) والحافظ ابن حجر العسقلاني ت852هـ ومدرسته التي امتدّ إشعاعها عَبرَ قرون عدة فقد نقل عبارة الحافظ النيسابوري : (ما في هذه الكتب كلها أجودَ من كتاب محمد بن إسماعيل)
ـ الاتجاه الثالث:
اعتبار الموطأ دون الصحيحين وسائر كتب السُّنن:
وقد تفرّدَ بهذا الرأي ابن حزم الظاهري ونصُّ كلامه : "أوْلى الكتب بالتعظيم صحيحا البخاري ومسلم وصحيح ابن السكن ت353هـ ومنتقى ابن الجارود ت299هـ والمنتقى لقاسم بن أصبغ ت244ه ثم بعدها كتاب أبي داود وكتاب النسائي والمصنف لقاسم بن أصبغ ت244ه ومصنف أبي جعفر الطحاوي" ت321ه قلت ـ القول للذهبي ـ : ما ذكر سنن ابن ماجة ولا جامع أبي عيسى فإنه ما رآهما ولا أدخلا إلى الأندلس إلا بعد موته ثم قال : "ومسند البزارت292ه ومسند ابن أبي شيبة ت235هـ ومسند أحمد بن حنبل ومسند إسحاق ت238ه ومسند الطيالسي ت204هـ ومسند الحسن بن سفيان ت303هـ ومسند ابن سنجرت 258هـ ومسند عبدالله ابن محمد المسندي ت229هـ ومسند يعقوب بن شيبة ت262ه ومسند علي ابن المديني ت234ه ومسند ابن أبي غرزة ت276ه وما جرى مجرى هذه الكتب التي أفردت لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم صرفا ثم الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره مثل مصنف عبدالرزاقت211ه ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ت235هـ ومصنف بَقيّ بن مَخلَد ت 276ه وكتاب محمد بن نصر المروزي ت294هـ وكتاب ابن المنذرت 319ه الأكبر والأصغر ثم مصنف حماد بن سلمة ت167هـ وموطأ مالك بن أنس" [54] وقد ردَّ كلامَه ـ بعدما أورده ـ الحافظ الذهبي
نُسخ الموطأ والرواة عن مالك:
الرواة عن الإمام مالك، كثيرون لا يحصرهم كتابُ حافظ ذكر منهم الحافظ الخطيب البغدادي وابن رَشيد العطارت662ه ـ والمستدرِكُ عليهما ـ : ألفا وخمسمائة وثمانين وستةَ رواة [55] وقد أفرد بعضُ العلماء بالتأليف رواة الموطأ عن مالك منهم : الحافظ المحدث محمد ابن أبي بكر المعروف : بابن ناصر الدين الدمشقي ت842هـ وكتابه: إتحافُ السالك برواة الموطأ عن الإمام مالك ذكر فيه تسعة وسبعين راوياً للموطأ وعدّ منهم الشيخ محمد مصطفى الأعظمي ت1439ه في مقدمة تحقيقه للموطأ مائةَ راو
بعض نسخ الموطأ المشهورة:
قال القاضي عياضت544 هـ: "والذي اشتهر من نسخ الموطأ عنه، مما رويته أو وقفت عليه، أو كان في رواية شيوخنا، أو نقل عنه أصحاب اختلاف الموطآت نحواً من عشرين نسخة، وذكر بعض الفضلاء أنها ثلاثون" [57]
أ – نسخة يحيى بن يحيى الليثي (ت 234هـ) ط وإذا أطلق الموطأ فالمراد هذه النسخة ومما يدلك على اهتمام العلماء بالموطأ ما ذكره الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي من أن موطأ الإمام يحيى بن يحيى الليثي قد بلغت شروحه ـ على حدةٍ ـ نحو مائة شرح قال:
وبلغتْ شروحه نحوَ المائهْ فكلها عمّا حواهُ مُنْبئهْ. [58]
النسخة الكويتية من الموطأ:
للكويت صلةٌ قديمةٌ بالمذهب المالكي يناهزُ تاريخُها المعروفُ أربعةَ قرون ، وقد كان ـ ولا زال ـ المذهبَ الرسمي لكثير من أهلها وأسرها العريقة مُتداولا فيما بينهم يرويه خلف عن سلف ، ولا أدلّ على ذلك ـ بعد الواقع ـ من كون أقدم مخطوطٍ ظَفِرَ به الباحثون عن تاريخ هذه البلاد كانَ نسخة الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي بخطّ فاضل كويتي مالكي من أهل فيلكا اسمه :مُسيعيد بن أحمد بن مساعد بن عبد الله بن سالم المالكي دبَّجتها يَراعُه في محرم من عام 1094هـ وقدْ ظلَّ رُكْن المذهب المالكي قائماً في "فيلكا" حيثُ كانت على موعدٍ ـ بعدَ ستة وثمانين عاما من التاريخ المذكورـ مع ميلاد أحد أعلامها المالكيين وهو: العالم الشهير صاحبُ المؤلفات العديدة والمنظومات الفقهية واللغوية المفيدة : الشيخ عثمان بن سند الوائلي المالكي الكويتي المولود في فيلكا سنة1180هـ ت 1242هـ
ب ـ نسخة عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري القرشي مولاهم (ت 197هـ).
جـ نسخة أبي عبدالله عبدالرحمن بن القاسم العُتَقي (ت 191هـ) ونُقل عن النسائي أنه أثبت أصحاب مالك.[59]
د – نسخة أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة القَعْنَبي (ت 221هـ) ط يختارها الإمام أبو داوود في سننه ـ غالباً ـ
قال يحيى بن معين ت233ه: أوثق الناس في (الموطأ): القعنبي، ثم عبد الله بن يوسف يعني: التنيسي الآتي ذكره.
هـ نسخة عبد الله بن يوسف التِّنِّيسي (ت 218هـ). يختار منها الإمام البخاري في صحيحه ـ غالباً ـ
و - نسخة أبي مصعب أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة (ت 242هـ). ط وهو من أحدث الناس سماعاً من مالك قال ابن حزم: آخر ما رُوي عن مالك موطأ أبي مصعب وموطأ أبي حذافة ت259ه وفيهما زيادة على الموطآت نحو من مائة حديث[60]
زـ نسخة مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام (ت236هـ).
ح ـ نسخة محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة (ت 189هـ). ط
ط ـ نسخة يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري ت 226هـ وقد اختار مسلم روايته للموطأ في صحيحه (غالبا)
ي ـ نسخة عبد الرحمن بن مهدي ت 198هـ رواها عنه الإمام أحمد بن حنبل وضمَّنَ مُسندهُ كثيرا منها
أي ـ نسخة يحيى بن عبد الله بن بُكير المصري ت 231هـ ط
يب ـ نسخة: قتيبة بن سعيد ت240هـ وقد اختار روايته للموطأ النسائي في سننه (غالبا) إلى غيرها من النسخ
عدة أحاديث الموطأ
قال أبو بكر الأبهري ت375هـ : جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثاً، المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثاً، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون [61] وقد يختلف عددها بتعدد الروايات عن الإمام مالك وتفاوتها في النقصان والزيادة
الإرشاد في معرفة علماء الحديث لأبي يعلى الخليلي القزويني1/ 231مكتبة الرشد - الرياض و: أثر الإمام مالك وموطئه على الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي د، عبد الرحمن الصاعدي ص: 33 مجلة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية السنة الخامسة العدد8 ـ 1437هـ
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم 6/32 مطبعة السعادة ـ مصر كشف المغطى في فضل الموطا ص: 60
مقدمة ابن الصلاح ص: 18 دار الفكر- سوريا
إصلاح كتاب ابن الصلاح 2/62 أضواء السلف
توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لمحمد بن إسماعيل الصنعاني 1/150دار الكتب العلمية بيروت- لبنان ومسند الموطأ للجوهرجي ص: 110دار الغرب الإسلامي